سماحة الشيخ عيسى عيد
من الأمور التي يشنع بها على الامامية ويُتَّهمون بها أنّهم يعتقدون بمصحف فاطمة عليها السلام، لأنّ ذلك يعني أنّ لهم قرانا غير هذا القرآن.
وهذا التشنيع والاتهام الباطل اساسه جهلهم بحقيقة مصحف فاطمة، واعتقادهم بأن لفظ المصحف من اسماء القرآن الكريم الخاصة. وكلاهما باطل، و غير صحيح، اما حقيقة مصحف فاطمة فهو مغاير للقران تماما، بل وليس فيه شيء من القرآن، فهو حقيقة اخرى، كما سيتضح ذلك من خلال استعراض احاديث اهل البيت عليهم السلام حول حقيقة مصحف فاطمة عليه االسلام.
وأما اطلاق لفظ المصحف على القرآن الكريم فيحتاج الى معرفة المعنى اللغوي لكلمة المصحف اولا، واستقراء اسماء القران الكريم التي وردت فيه ثانيا.
المعنى اللغوي لكلمة المصحف:
الاصل في المصحف، صحف، قال ابن منظور في لسان العرب ما نصه: “والصحيفة التي يكتب فيها، والجمع صحائف و صُحُف، و صُحْف، وفي التنزيل: “إنّ هذا لفي الصحف الاولى، صحف ابراهيم وموسى”، (الأعلى: ١٨، ١٩)، يعني الكتب المنزلة عليهما.
ثم قال: والمُصحف والمِصحف: الجامع للصحف المكتوبة بين الدفتين كأنه اصحف. وقال الطريحي في مجمع البحرين: الصحيفة: قطعة من جلد او قرطاس كتب فيه.
واما القران الكريم فلم يطلق فيه لفظ المصحف على القرآن، مع العلم انه اطلق لفظ الصحف على الكتب السماوية التي انزلت على بعض الانبياء، كما في قوله “إنّ هذا لفي الصحف الأولى، صحف ابراهيم وموسى”.
نعم عبّر في سورة البينة عن القرآن بالصحف ، “يتلو صحفا مطهرة”، والصحف جمع صحيفة وتعني ما يكتب عليها من الورق و غيره.
ومن هذا الاستعراض البسيط نرى انه لا يتبادر الى الذهن معنى القرآن من لفظ المصحف الاّ بقرينة، فهو لفظ مشترك، وليس اسما خاصا بالقرآن.
فالمصحف هو ما جمع بين دفتيه صحفا كثيرة، فكل كتاب يقال له مصحف، والقرآن يشارك غيره في هذه التسمية، نعم ينبغي أن يفرق بينه وبين غيره من الكتب بذكر صفة من صفات القرآن، كنسبته الى الله تبارك وتعالى، فيقال مصحف الله، او الى النبي صلى الله عليه و آله، فيقال مصحف محمد صلى الله عليه و آله، او المصحف
الكريم، او غير ذلك من نعوت القران الكريم.
ولا شك أن مصحف فاطمة من الامور الغائبة عنا والتي اختص بعلمها اهل البيت عليهم السلام، و ا طريق للتعرف عليه الا من خلال رواياتهم سلام الله عليهم.
وقد اختلفت الروايات في بيان حقيقة مصحف فاطمة، الاّ أنها اتفقت على ان ما فيه يعتبر من الامور الغيبية، التي اختص بها اهل البيت عليهم السلام. بل كان علمه مخفيا حتى على اصحاب الأئمة عليهم السلام.
مصحف فاطمة في روايات اهل البيت (عليهم السلام):
اذا راجعنا روايات اهل البيت عليهم السلام التي تتحدث عن مصحف فاطمة نجد في بعضها التفاتة واضحة الى الشبهة التي يوردها اعداؤهم، من اعتبار مصحف فاطمة قرآنا يغاير القرآن المتداول بين المسلمين .
فقد روى الكليني عليه الرحمة في صحيح ابي بصير ، قال : “دخلت على أبي عبدالله عليه السلام فقلت له جعلت فداك إنّي اسألك عن مسألة، ههنا احدٌ يسمع كلامي؟ قال: فرفع أبو عبدالله عليه السلام سترا بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه، ثم قال: يا أبا محمد سل عمّا بدا لك، قال: قلت جعلت فداك أنّ شيعتك يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه و آله علّم عليا عليه السلام بابا يفتح له منه الف باب؟ قال: فقال عليه السلام يا أبا محمد، علم رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام الف باب، يفتح من كل باب الف باب. قال: قلت: هذا و الله العلم . قال: فَنَكَتَ ساعة في الارض ، ثم قال : إنه لعلم و ما هو بذاك، (اي ليس ما توهمت، انه اعظم)،
قال : ثم قال عليه السلام : يا أبا محمد ، وإنّ عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة؟ قال : قلت : جعلتُ فداك وما الجامعة؟ قال عليه السلام: صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله صلى الله عليه و آله، وإملائه من فَلق فيه (اي مشافهة)، وخط علي عليه السلام بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس اليه حتى الأَرش في الخَدْش، وضرب بيده اليّ فقال: تأذن لي يا أبا محمد؟ قال : قلت : جعلت فداك إنما انا لك فاصنع ما شئت، قال : فغمزني بيده ، وقال : حتى أرش هذا . كأنه مغضب ، ( اي اخذ بشدة )، قال : قلت : هذا و الله العلم . قال عليه السلام : انه لعلم و ليس بذاك .
ثم سكت ساعة ، ثم قال : و إنّ عندنا الجفر، و ما يدريهم ما الجفر ؟ قال : قلت : و ما
الجفر ؟ قال : و عاء من أُدم ( و هو جمع اديم و هو الجلدة الحمراء ) فيه علم النبيين ، و الوصيين ، و علم العلماء الذين مضوا من بني اسرائيل . قال : قلت : هذا و الله العلم ، قال عليه السلام : إنه لعلم و ليس بذاك .
ثم سكت عليه السلام ساعة ، ثم قال : و إنّ عندنا لمصحف فاطمة و ما يدريهم ما مصحف فاطمة ؟ قال : قلت و ما مصحف فاطمة ؟ قال عليه السلام : مصحف فاطمة مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، و الله ما فيه من قرآنكم حرف واحد ، قال : قلت : هذا و الله العلم . قال : أنه لعلم و ما هو بذاك .
ثم سكت ساعة ثم قال عليه السلام : إنّ عندنا علم ما كان و علم ما هو كائن الى أنْ تقوم الساعة . قال: فقلت: هذا و الله العلم، قال: أنه لعلم و ماهو بذاك .
قال: قلت: جعلت فداك فأي شيء العلم؟ قال: ما يحدث بالليل و النهار، الأمر من بعد الأمر والشيء بعد الشيء الى يوم القيامة”.
من خلال هذه الرواية..
نرى أن الامام يبين حقيقة مصحف فاطمة وانه يعادل القرآن ثلاث مرات، و قد يحتمل ان هذه المثلية في قوله “مثل قرآنكم” من حيث الحجم والكم، وقد يحتمل انها من حيث العلم الذي يحتوي عليه، و قد يحتمل الامران معا، و لا ضير في ذلك .
وسوف نتعرض للروايات الاخرى في الاسبوع القادم بحول الله تبارك وتعالى .
السلام عليك يا ممتحنة، و رحمة الله و بركاته، اللهم بحق الزهراء و ابيها وامها و بعلها و بنيها، اجعلنا من عبادك المخلصين، و المرحومين، و غير سوء حالنا بحسن حالك يا كريم .
—
* من خطبة الجمعة ٢٨ مارس ٢٠١٤م
جميع الحقوق محفوطة لـ جمعية اقرأ لعلوم القرآن